الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: تيسير العلام شرح عمدة الأحكام
.باب الخشُوع في الصَّلاةِ: الخشوع في الصلاة، هو روحها وَلُبُّهَا ويكثر ثوابها أو يقل، حسبما عقله المصلى منها، ولذا أثنى الله تعالى على الذين هم في صلاتهم خاشعون بأنهم الذين يرثون الفردوس هم فيها خالدون.ولإحضار القلب في الصلاة، أسباب: منها: الاستعاذة من الشيطان، وتدبر قراءة الصلاة، وأنواع الذكر فيها. ومنها: جعل السترة، وجعل النظرة موضع السجود، كما أن دخول الإنسان فيها بعد الفراغ من الشاغلات عنها، كالنوم، وشهوة الطعام والشراب، من أقوى أسباب إحضار القلب. ولذا نهى عن الصلاة حال حضور الطعام، أو مدافعة الأخبثين. لأن في ذلك مشغلة عن الصلاة. وذهب الجمهور من العلماء إلى صحة صلاة من غلبت على صلاته الوساوس ولكن مع نقص ثوابها. وذهب أبو حامد الغزالي، وابن الجوزي، إلى بطلانها. الحديث: عَنْ عَائِشَةَ رضيَ الله عَنْهَا أنَ النَّبَّي صلى الله عليه وسلم صَلَّىِ في خَمِيصةٍ، لَهَا أعْلاَمٌ، فَنَظَرَ إِلى أعْلاَمِهَا نَظْرَةً، فَلَمَّا انْصَرَف قالَ: «اذهبوا بخَمِيصتي هذه إِلى أبي جَهْمٍ، وَأْتُوني بِأنْبِجَانيَّة ِ أبي جَهْمٍ، فإنهَا أَلْهَتْني آنِفاً عَن صَلاتي». غريب الحديث: 1- خميصة لها أعلام: كساء مربع مخطط بألوان مختلفة. وقال ابن الأثير: هي ثوب خز أو صوف معلم. وقيل: لا تسمى خميصة إلا أن تكون سوداء معلمة. 2- الأنْبِجانيّة: كساء غليظ، ليس له أعلام، وهي بفتح الهمزة وسكون النون، وكسر الباء الموحدة، وبعد الألف نون مكسورة، بعدها ياء مشددة، ثم تاء التأنيث. منسوبة إلى بلد تسمى أنبجان. وقد وردت هذه الكلمة بفتح الباء وهي نسبة على غير قياس إلى منبج البلد المعروف في بلاد الشام. ومثلها منبجاني. وهى كساء من الصوف له خمل وليس له علم وتعد من أدون الثياب الغليظة. 3- آنفاً:- يعنى الآن. المعنى الإجمالي: أهدى أبو جهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم، خميصة لها أعلام. وكان من مكارم أخلاقه صلى الله عليه وسلم أنه يقبل الهدية جبراً لخاطر المهدى، فقبلها صلى الله عليه وسلم منه، وصلى بها. ولكونها ذات أعلام يتعلق بها النظر، ألهَتْه صلى الله عليه وسلم عن كامل الحضور في صلاته، وهو صلى الله عليه وسلم كامل، لا يصدر عنه من الأعمال إلا الكامل. فأمرهم أن يعيدوا هذه الخميصة المعلمة إلى المهدى أبي جهم. وحتى لا يكون في قلب أبي جهم شيء من رد الهدية، وليطمئن قلبه، أمرهم أن يأتوه بكساء أبي جهم، الذي لم يعلم. وهذا من كمال هديه صلى الله عليه وسلم. ما يؤخذ من الحديث: 1- مشروعية الخشوع في الصلاة، وفعل الأسباب الجالبة له، والابتعاد عن كل ما يشغل في الصلاة. 2- أن اشتغال القلب اليسير، لا يقدح في الصلاة. 3- كراهة تزويق المساجد، ونقشها، والكتابة فيها، لما يجلبه من اشتغال المصلين في النظر إليها. 4- فيه جواز لبس الملابس المعلمة للرجال. 5- وفيه استحباب قبول الهدية، جبراً لقلب المهدي، وتودُّداً إليه. 6- وفيه أنه لا بأس من رد الهدية لسبب، ولكن مع بيان السبب لصاحبها، حتى لا يقع في قلبه شيء. 7- وفيه حسن أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم، حيث ردَّ عليه الكساء المعلم، وطلب الكساء الذي ليس فيه أعلام، ليعلمه أنه غير مترفع عن هديته. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: ولاريب أن الوسواس كلما قل في الصلاة كان أكمل، والذي يعين على ذلك شيئان: قوة المقتضي، وضعف الشاغل. أما الأول: فاجتهاد العبد في أن يعقل ما يقوله ويفعله، ويتدبر القراءة والذكر والدعاء، ويستحضر أنه مناج لله تعالى كأنه يراه، فإن المصلى يناجي ربه، والإحسان أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك، ثم كلما ذاق العبد حلاوة الصلاة كان انجذابه إليها أوكد، وهذا يكون بحسب قوة الإيمان، والأسباب المقوية للإيمان كثيرة: فإن مافي القلب من معرفة الله ومحبته وخشيته وإخلاص الدين له وخوفه ورجائه والتصديق بأخباره وغير ذلك مما يتباين الناس فيه ويتفاضلون تفاضلا عظيما. ويقوي ذلك كلما ازداد العبد تدبرا للقرآن، وفهما ومعرفة بأسماء الله وصفاته وعظمته، وأظهر فقره إليه في عبادته، اشتغاله به، فإنه لا صلاح له إلا بأن يكون الله هو معبوده الذي يطمئن إليه، ويأنس به، ويلتذ بذكره، ولاحصول لهذا إلا بإعانة الله، ومتى لم يعنه الله على ذلك لم يصلحه، ولا حول ولا قوة إلا بالله. الثاني: زوال العوارض، وهو الاجتهاد في دفع ما يشغل القلب من تفكر الإنسان فيما لا يفيده في عبادته، وتدبر الجواذب التي تجذب القلب عن مقصود الصلاة، وهذا في كل عبد بحسبه، فإن كثرة الوساوس بحسب كثرة الشبهات والشهوات، وتعليق القلب بالمحبوبات التي ينصرف القلب إلى طلبها، والعبد الكيس يجتهد في كمال الحضور، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. .باب الجَمْع بين الصلاتين في السفر: لما كان السفر مظنة المشقة، رخص فيه الشارع بعض الرخص في العبادات، تيسيراً على عباده ورحمة بهم.ومن تلك الرخص، إباحة الجمع للمسافر، الذي ربما أدركه وقت الصلاة وهُو جادُّ في سفره. فأبيح له أن يجمع بين صلاتي الظهر والعصر في وقت إحداهما، وبين صلاتي المغرب والعشاء، في وقت إحداهما أيضا. وهذا كله من سماحة الشريعة المحمدية ويسرها وهو فضل من الله تعالى، لئلا يجعل علينا في الدين من حرج. عَنْ عَبْدِ الله بن عَبَّاس رَضِيَ الله عَنْهَما قال: كَان رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم يَجْمَعُ بَيْن صَلاَةِ الظُّْهرِ وَالعَصْرِ إذَا كان عَلى ظَهْر سَيْر، وَيَجْمَعُ بينَ الْمَغْرِب وَالعِشَاء. المعنى الإِجمالي: كان من عادة النبي صلى الله عليه وسلم إذا سافر وجدَّ به السير في سفره، الجمع بين الظهر والعصر، إما تقديماً، أو تأخيراً، والجمع بين المغرب والعشاء، إما تقديماً أو تأخيراً، يراعى في ذاك الأرفق به وبمن معه من المسافرين، فيكون سفره سبباً في جمعه الصلاتين، في وقت إحداهما، لأن الوقت صار وقتاً للصلاتين كلتيهما. اختلاف العلماء: اختلف العلماء في الجمع. فذهب كثير من الصحابة والتابعين إلى جواز الجمع تقديماً أو تأخيراً وهو مذهب الشافعي، وأحمد، والثوري، مستدلين بأحاديث عن ابن عباس، وابن عمر، ومنها حديث معاذ أن النبي صلى الله عليه وسلم إذا ارتحل قبل أن تزيغ الشمس أخر صلاة الظهر حتى يجمعها إلى العصر، يصليهما جميعاً، وإذا ارتحل بعد زيغ الشمس، صلى الظهر والعصر جميعاً ثم سار. وكان إذا ارتحل قبل المغرب، أخر المغرب حتى يصليها مع العشاء، وإذا ارتحل بعد المغرب يعجل العشاء فصلاها مع المغرب رواه أحمد، وأبو داود، والترمذي. وقد صحح بعض الأئمة هذا الحديث، وتكلم فيه بعضهم الآَخر، وأصله في مسلم بدون جمع التقديم. وذهب أبو حنيفة وصاحباه، والحسن، والنخعي: إلى عدم جواز الجمع. فتأولوا أحاديث الجمع بأنه جمع صُورِيٌّ. وصفته- عندهم- أن يؤخر الظهر إلى آخر وقتها فيصليها، ثم يصلى بعدها العصر في أول وقتها، وكذلك المغرب والعشاء. وهذا تعسُّف وخلاف المفهوم من لفظ الجمع، الذي معناه جعل الصلاتين في وقت إحداهما، ويعكر عليه أيضا ثبوت جمع التقديم وهو ينافي هذه الطرق في التأويل. ذكر الخطابي وابن عبد البر أن الجمع رخصة، والإتيان بالصلاتين إحداهما في آخر وقتها، والثانية في أول وفتها فيه ضيق، إذ لا يدركه أكثر الخاصة، فما رأيك بالعامة؟. وذهب ابن حزم، ورواية عن مالك: أنه يجوز جمع التأخير دون التقديم. وأجابوا عن الأحاديث، بما قاله بعض العلماء من المقال فيها. واختلفوا أيضاً في حكم الجمع. فذهب الشافعي وأحمد والجمهور، إلى أن السفر سبب في جمع التقديم والتأخير، وهو رواية عن مالك. وذهب مالك في المشهور عنه إلى اختصاص الجمع بوقت الحاجة، وهى إذا جدَّ به السير، واختارها شيخ الإسلام ابن تيمية وقرى ذلك ابن القيم في الهدى: قال الباجي: كراهة مالك للجمع خشية أن يفعله من يقدر عليه دون مشقة وأما إباحته إذا جد به السفر فلحديث ابن عمر. وذهب أبو حنيفة إلى عدم جواز الجمع إلا في عرفة ومزدلفة، للنسك لا للسفر. واستدل الجمهور بأحاديث الجمع المطلقة عن تقييد السفر بنازل أو جادّ في السَّيْر، ومنها ما جاء في الموطأ عن معاذ بن جبل من أن النبي صلى الله عليه وسلم أخر الصلاة يوما في غزوة تبوك، ثم خرج فصلى الظهر والعصر جميعاً ثم دخل ثم خرج فصلى المغرب والعشاء. قال ابن عبد البر: هذا الحديث ثابت الإسناد وذكر الشافعي في الأم وابن عبد البر والباجي أن دخوله وخروجه صلى الله عليه وسلم لا يكون إلا وهو نازل غير جاد في السفر وفي هذا رد قاطع على من قال: لا يجمع إلا من جد به السفر. أما دليل الإمام مالك، وشيخ الإسلام، وابن القيم، فحديث ابن عمر أنه كان إذا جدَّ به السير، جمع بين المغرب والعشاء ويقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا جد به السير جع بينهما. ولكن عند الجمهور زيادة دلالة في أحاديثها يحسن قبولها. ولأن السفر موطن مشقة في النزول والسير، ولأن رخصة الجمع ما جعلت إلا للتسهيل فيه. وابن القيم في الهدى جعل حديث معاذ ونحوه من أدلته، على أن رخصة الجمع لا تكون إلا في وقت الجِدِّ في السير. أما رأى أبي حنيفة فمردود بالسنن الصحيحة الصريحة. فوائد: الأولى: ما ذكره المؤلف في الجمع لأجل السفر وهناك أعذار غير السفر تبيح الجمع. منها: المطر، فقد روى البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم- جمع بين المغرب والعشاء في ليلة مطيرة. وخص الجمع هناك بالمغرب والعشاء فقط دون الظهر والعصر، وجوزه جماعة منهم الإمام أحمد وأصحابه. وكذلك المرض، فقد روى مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم جمع بين الظهر والعصر والمغرب والعشاء، من غير خوف ولا مطر وفي رواية من غير خوف ولا سفر. وليس هناك إلا المرض. وقد جوزه كثير من العلماء، منهم مالك وأحمد وإسحاق والحسن. وقال به جماعة من الشافعية فمنهم الخطابي، واختاره النووي في صحيح مسلم، وذكر ابن تيمية أن الإمام أحمد نص على جواز الجمع للحرج وللشغل بحديث روى في ذلك. وقد ثبت جواز الجمع للمستحاضة، وهو نوع من المرض. الفائدة الثانية: أن السفر الذي يباح فيه الجمع، قد اختلف العلماء في تحديده. فجعله الإمامان، الشافعى، وأحمد، يومين قاصدين، يعنى ستة عشر فرسخاً. واختار الشيخ تقي الدين أن كل ما يسمى سفرا، طال أو قصر، أبيح فيه الجمع، وأنه لا يتقدر بمدة، وقال: إن نصوص الكتاب والسنة ليس فيها تفريق بين سفر طويل وسفر قصير، فمن فرق بين هذا وهذا فقد فرق بين ماجمع الله بينه فرقاً لا أصل له. وما ذهب إليه شيخ الإسلام هو مذهب الظاهرية. ونصره صاحب المغنى. وقال ابن القيم في الهدى: وأما مايروي عنه من التحديد باليوم, أو اليومين، أو الثلاثة، فلم يصح عنه منها شيء البتة. الفائدة الثالثة: عند جمهور العلماء، أن ترك الجمع أفضل من الجمع، إلا في جَمْعَيْ عرفة ومزدلفة، لما في ذلك من المصلحة. ما يؤخذ من الحديث: 1- جواز الجمع بين صلاتي الظهر والعصر، وبين صلاتي المغرب والعشاء. 2- عموم الحديث يفيد جواز جمع التقديم والتأخير، بين الصلاتين، وقد دلت عليه الأدلة كما تقدم. - ظاهره أنه خاص بما إذا جدَّ به السَّيْر، وتقدم الخلاف في ذلك وأدلة العلماء فيه. قال ابن دقيق العيد: والحديث يدل على الجمع إذا كان على ظهر سير، ولولا ورود غيره من الأحاديث بالجمع في غير هذه الحالة لكان الدليل يقتضي امتناع الجمع في غيره، فجواز الجمع في هذا الحديث قد علق بصفة لم يكن ليجوز إلغاؤها، لكن إذا صح الجمع في حالة النزول فالعمل به أولى، لقيام دليل آخر على الجواز في غير هذه الصورة، أعنى السير، وقيام ذلك الدليل يدل على إلغاء اعتبار هذا الوصف، ولا يمكن أن يعارض ذلك الدليِل بالمفهوم من هذا الحديث، لأن في دلالة ذلك المنطوق على الجواز في تلك الصورة بخصوصها أرجح. أهـ. 4- يدل الحديث وغيره من الأحاديث أن الجمع يختص بالظهر مع العصر، والمغرب مع العشاء، وأن الفجر لا تجمع إلى شيء منها. .باب قصْر الصَّلاة في السفر: القصر: هو للصلوات الرباعية، وهي الظهر، والعصر والعشاء. ونقل ابن المنذر الإجماع على أنه لا قصر في المغرب والفجر.وليس له سبب إلا السفر، لأنه من رخصه التي شرعت رحمة بالمسافر. شفقة عليه. عَنْ عَبْدِ الله بْن عُمَرَ رضيَ الله عَنْهُمَا قال: صَحِبْتُ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم فَكانَ لاَ يَزِيدُ في السَّفَرِ عَلىَ رَكْعَتَيْن، وَأبا بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمانَ كَذلِكَ. المعنى الإجمالي: يذكر عبد الله بن عمر أنه صحب النبي صلى الله عليه وسلم في أسفاره، وكذلك صحب أبا بكر وعمر وعثمان في أسفارهم. فكان كل منهم يقصر الصلاة الرباعية إلى ركعتين، ولا يزيد عليهما. اختلاف العلماء: اختلف العلماء في القصر: هل هو واجب أو رخصة، يستحب إتيانها؟ فذهب الأئمة الثلاثة، مالك، والشافعي، وأحمد إلى جواز الإتمام، والقصر أفضل. وذهب أبو حنيفة، إلى وجوب القصر، ونصره ابن حزم وقال: إن فرض المسافر ركعتان. وأدلة الموجبين للقصر، مداومة النبي صلى الله عليه وسلم عليه في أسفاره. وأجيب بأن الفعل لا يدل على الوجوب عند الجمهور. واستدلوا أيضاً بحديث عائشة في الصحيحين: «فُرِضتِ الصلاَةُ رَكْعَتَيْن فأُْقِرَّتْ صَلاَةُ السَّفَرِ وَأْتِمَّتْ صَلاَةُ الْحَضَرِ». وأجيب عنه بأجوبة، أحسنها أن هذا من كلام عائشة، ولم يرفع إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وعائشة لم تشهد زمان فرض الصلاة. أما أدلة الجمهور على عدم وجوب القصر فقوله تعالى: {لَيْسَ عَليكُمْ جُنَاحٌ أن تَقصُرُوا مِنَ الصَّلاَةِ} فَنًَفْيُ الجناح يفيد أنه رخصة، وليس عزيمة. وبأن الأصل الإتمام، والقصر إنما يكون من شيء أطول منه. وبحديث عائشة: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقصر في السفر ويتم ويفطر ويصوم رواه الدارقطني وقال: إسناده حسن. وقد أجيب عن أدلة الجمهور بأن الآية وردت في قصر الصفة في صلاة الخوف، وبأن الحديث متكلم فيه، حتى قال شيخ الإسلام ابن تيمية، هذا حديث كذب على النبي صلى الله عليه وسلم. قلت: الأولى للمسافر أن لايدع القصر، اتباعاً للنبي صلى الله عليه وسلم، وخروجاً من خلاف من أوجبه، ولأنه الأفضل عند عامة العلماء. وشيخ الإسلام ابن تيمية نقل عنه في الاختيارات كراهة الإتمام، وذكر أنه نفل عن الإمام أحمد التوقف في صحة صلاة المُتِمِّ. وقال الشيخ تقي الدين أيضاً: قد علم بالتواتر أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما كان يصلى في السفر ركعتين. وكذلك أبو بكر وعمر بعده، وهذا يدل على أن الركعتين أفضل، كما عليه جماهير العلماء. ما يؤخذ من الحديث: 1- مشروعية قصر الصلاة الرباعية في السفر إلى ركعتين. 2- أن القصر هو سنة النبي صلى الله عليه وسلم، وسنة خلفائه الراشدين في أسفارهم. 3- أن القصر عام في سفر الحج والجهاد، وكل سفر طاعة. وقد ألحق العلماء الأسفار المباحة قال النووي: ذهب الجمهور إلى أنه يجوز القصر في كل سفر مباح. وبعضهم لم يجز القصر في سفر المعصية والصحيح أن الرخصة عامة، يستوي فيها كل أحد. 4- لطف المولى بخلقه، وسماحة هذه الشريعة المحمدية، حيث سهَّل عبادته على خلقه. فإنه لما كان السفر مظنة المشقة، رخّص لهم في نقص الصلاة. وإذا زادت المشقة بقتال العدو، خفف عنهم بعض الصلاة أيضاً. 5- السفر في هذا الحديث مطلق، لم يقيد بالطويل، والأحسن أن يبقى على إطلاقه فيترخص في كل ما سُمِّي سفراً. أما تقييده بمدة معينة، أو بفراسخ محدودة، فلم يثبت فيه شيء. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: السفر لم يحده الشارع، وليس له حد في اللغة فيرجع فيه إلى ما يعرفه الناس ويعتادونه، فما كان عندهم سفراً فهو سفر. اهـ. .باب الجُمعَة: يوم الجمعة أفضل أيام الأسبوع، وقد خص الله به المسلمين، وأضل عنه من قبلهم من الأمم، كرماً منه وفضلا على هذه الأمة.ولهذا اليوم خصائص من العبادات، وأعظمها هذه الصلاة التي هي آكد الفروض وكذا استحباب قراءة سورتي السجدة والإنسان في صلاة فجرها، وسورة الكهف في يومها، وكثرة الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، والاغتسال والتطيب ولبس أحسن الثياب التي يقدر عليها. والذهاب إليها مبكراً، والاشتغال بالذكر والدعاء إلى حضور الخطب ثم الإنصات لخطبته لأن في ذلك اليوم ساعة استجابة، لا يرد فيها الداعي وقد اختلف في تعيينها العلماء فمنهم من قال: إنها من جلوس الإمام على المنبر إلى انقضاء الصلاة. ومنهم من قال: إنها آخر ساعة بعد العصر. وهذا قول جمهور الصحابة والتابعين واختاره الإمام أحمد. كما أن للصلاة فيه خصائص لا توجد في غيرها من الاجتماع، والتأكيد على إتيانها، وشرط الاستيطان والإقامة في صلاتها، وتقدم الخطبتين عليها، والجهر في قراءتها، وتحريم البيع والشراء بعد النداء لها. وقد جاء من التشديد في التخلف عنها مال يأت في صلاة العصر. لذا أجمع المسلمون أنها فرض عين، وقالوا إنها أفضل مجامع المسلمين سوى مجمع عرفة. وقد أفرد لها الشيخ ابن القيم فَصْلاً مطولا في كتابه زاد المعاد في هدي خير العباد. الحديث الأول: عَنْ سَهْلِ بن سَعْدٍ السَّاعِدي رضيَ الله عَنْهُ: أنَّ رِجَالاً تَماروا في مِنْبر ِرَسُول الله صلى الله عليه وسلم مِن أيِّ عُودٍ هُوَ? فقال سَهْلٌ: من طَرْفاء الْغَابَةِ، وَقَدْ رَأيْتُ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم قَامَ عليهِ فَكبَّرَ وَكبَّرَ النَّاسُ وَرَاءَهُ وَهو عَلَى المِنْبَرِ، ثُمَّ ركَع فنزل القَهْقَري حَتَّى سَجَدَ في أصلِ الْمِنبرِ، ثُمَّ عَادَ حَتَّى فرَغَ مِنْ آخِرِ صَلاَتِهِ ثم أَقْبَلَ عَلَى النَّاس فَقَالَ: «يَا أيُّهَا النَّاسُ، إِنَّمَا صَنَعْتُ هذَا لِتَأتمُّوا بي وَلِتَعلَّمُوا صَلاَتي». وفي لفظ: «فَصَلَّى وَهُوَ عَليْها ثَم كَبَّر عَلَيْهَا، ثُمَّ رَفَعَ وَهُوَ عَليْهَا ثُمَّ نَزَلَ الْقَهْقَرى». غريب الحديث: 1- تماروا: أي تجادلوا، من أي شيء المنبر؟ أو يكون من المِرية، وهي الشك. 2- طرفاء الغابة- الطرفاء شجر يشبه الأثل، إلا أن الأثل أعظم منه، ومنابته الأرض السبخة، كأرض المدينة المنورة. الغابة: الشجر الملتف: والمراد به هنا، موضع في عوالي المدينة، يقع منها غرباً. 3- القهقرى: أي رجع إلى الخلف من غير أن يجعل وجهه إلى جهة مشيه و«القهقرى» اسم مقصور. 4- ولتعلموا صلاتي- هو بكسر اللام الأولى وبتشديد اللام الثانية، وأصله تتعلموا، بتائين. المعنى الإجمالي: تباحث أناس في منبر النبي صلى الله عليه وسلم، من أي عود هو؟ فكان سهل بن سعد أعلم أهل زمانه، لأنه آخر من مات من الصحابة بالمدينة فجاؤوا إليه ليبين لهم، ويزيل مشكلهم فأخبرهم أنه من طرفاء الغابة. وتثبيتاً لخبره قال لهم: لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قام عليه للصلاة، فكبر وكبر الناس وراءه، وهو على المنبر، ثم ركع ونزل منه، ورجع إلى خلف حتى سجد في أصل المنبر، ثم عاد فطلع عليه، وما زال هكذا يطلع عند القيام وينزل منه عند السجود حتى فرغ من صلاته، ثم انصرف وأقبل على الناس فقال صلى الله عليه وسلم ما قاله مرشداً لهم إلى أنه ما فعل هذا الفعل من الطلوع على المنبر والنزول، إلا ليروا صلاته فيتعلموا منه ويقتدوا به. ما يؤخذ من الحديث: 1- تباحث التابعين في العلم، وأدبهم في الرجوع إلى العلماء الذين أخذوه من قبلهم. 2- جواز ارتفاع الإمام عن المأمومين في الصلاة للحاجة، كتعليمهم كيفية الصلاة. فإن لم يكن لحاجة، فيكره، لما روى أبو داود عن حذيفة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا أمّ الرجل القوم، فلا يقومَنَّ في مقام أرفع من مكانهم». 3- جواز الحركة اليسيرة للحاجة فإنها لا تضر الصلاة. 4- وجوب اتِّباع النبي صلى الله عليه وسلم، وأن أفعاله، من سنته التي تتبع، ويحافظ عليها. 5- وفيه حسن تعليمه صلى الله عليه وسلم، فإنه جمع بين القول والفعل، الذي يصور لهم به حقائق الأشياء. 6- فيه دليل على جواز إقامة الصلاة لأجل التعليم، وأنه لا ينافى الإخلاص والخشوع، بل هو زيادة عبادة إلى عبادة. الحديث الثاني: عَنْ عَبدِ الله بْن عُمَرَ رضيَ الله عنه: أنَّ رَسولَ الله صلى الله عليه وسلم، قال: «مَنْ جَاءَ مِنْكُمْ الْجُمعَةَ فَلْيَغْتَسِلْ». المعنى الإجمالي: الاجتماع لصلاة الجمعة، مشهد عظيم، ومجمع كبير من مجامع المسلمين، حيث يأتون لأدائها من أنحاء البلد، التي يسكنونها. ومثل هذا المحفل، الذي يظهر فيه شعار الإسلام، وأَبَّهة المسلمين، يكون الآتي إليه على أحسن هيئة، وأطيب رائحة، وأنظف جسم. لذا أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يغتسلوا عند الإتيان لها، ولئلا يكون فيهم أوساخ وروائح يؤذون بها المصلين والملائكة الحاضرين لسماع الخطبة والذكر. اختلاف العلماء: اختلف العلماء في غسل الجمعة. فذهب الظاهرية إلى أنه واجب، مستدلين بحديث: «غُسْلُ يوم الجُمعُةَ وَاجِب عَلَى كُلِّ مُحْتَلِم» متفق عليه. وذهب الجمهور إلى استحبابه، وأنه غير واجب، مستدلين بحديث الحسن، عن سمرة: أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: «مَنْ تَوَضَّأ يَوْمَ الجُمُعَةِ فَبِهَا وَنِعْمَتْ وَمَن اغتَسَلَ فالغُسلُ أفضَلُ» رواه الخمسة. قال ابن دقيق العيد: ولايقاوم سند هذا الحديث الأحاديث الموجبة، وإن كان المشهور في سنده صحيحاً. وأجابوا عن الحديث الذي استدل به الظاهرية، بأنه يفيد تأكيد السنية. وأن معنى: «الواجب» في الحديث، الحق، كما يقول أحد لأحد: لك عليّ حق واجب. أو أن ذلك في أول الإسلام، يوم كان الصحابة يلبسون الثياب الثقيلة الخشنة، ويعرقون، فتظهر منهم الرائحة الكريهة. فلما وسع الله عليهم، ولبسوا خفيف الثياب، نسخ الحكم من الوجوب إلى الاستحباب. أخرج أبو عوانة عن ابن عمر: كان الناس يغدون في أعمالهم، فإذا كانت الجمعة جاؤوا وعليهم ثياب متغيرة، فشكوا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «من جاء منكم الجمعة فليغتسل». والحق أن هذه أجوبة غير ناهضة لتأويل الحديث عن ظاهره. ولذا قال ابن القيم في الهدى: ووجوبه أقوى من وجوب الوتر، وقراءة البسملة في الصلاة، ووجوب الوضوء من مس النساء ومس الذَّكَر. ووجوب الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في التشهد الأخير. أهـ. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: ويجب الغسل على من له عرق، أو له ريح يتأذى به غيره وقال البغوي في شرح السنة: اختلف العلماء في وجوب غسل الجمعة مع اتفاقهم على أن الصلاة جائزة من غير غسل. فالأولى لمن ذهب إلى الجمعة أن لايدع الغسل، لأنه قد اتفق على مشروعيته وأدلة وجوبه قوية، والاحتياط أحسن وأولى. قال الصنعاني: وهؤلاء (أي الذين أولوا الحديث) داروا مع المعنى وأغفلوا المحافظة على التعبد. وذكر أن الجمع بين المعنى والتعبد متعين. الأحكام المأخوذة من الحديث: 1- ظاهر الحديث، وجوب الغسل لصلاة الجمعة والأصل حمل الحديث على ظاهره، وتقدم الخلاف في ذلك وأدلته. 2- وفيه دليل على أن الغسل يكون للصلاة، ويقدم عليها وهو الصحيح، لأنه مقصود لها، لا ليومها، خلافاً للظاهرية الذين يرون أن الغسل يكفي، ولو بعد الصلاة. 3- فيه دليل على أن الأفضل أن يكون الغسل قبيل الذهاب إلى صلاتها. 4- من حكمة مشروعية هذا الاغتسال، يستدل على أنه ينبغي للإنسان أن يأتي إلى مواطن العبادة والصلاة على أحسن حال وأجل هيئة {يا بَني آدَمَ خُذُوا زينتكُم عِنْدَ كلِّ مَسجدٍ}. 5- أن مشروعية الغَسل لمن أراد إتيان الصلاة، أما غيره، فلا يشرع له الغسل، وقد صرح بذلك لفظ الحديث عند ابن خزيمة، وهو: «ومن لم يأتها فليس عليه غسل». الحديث الثالث: عَنْ جَابِر بْنِ عَبْدِ الله رَضيَ الله عَنْهُمَا قََالَ: جَاءَ رَجُلٌ وَالنّبيُ صلى الله عليه وسلم يَخطبُ النَّاسَ يَوْمَ الجُمُعَةِ فَقَالَ: أصَلَّيْتَ يَا فلاَنُ؟ قال: لا، قَالَ: «قُمْ فَارْكَع رَكْعَتَيْن». وفي رواية: «فَصَلِّ رَكْعَتَين». المعنى الإجمالي: دخل سليك الغطفاني المسجد النبوي والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب الناس، فجلس ليسمع الخطبة، ولم يصل تحية المسجد، فما منعه تذكيره واشتغاله بالخطبة عن تعليمه، بل خاطبه بقوله: «أصليت يا فلان» في طرف المسجد قبل أن أراك? قال: لا. فقال: «قم فاركع ركعتين». قال ذلك بمشهد عظيم ليُعَلِّمَ الرجل في وقت الحاجة، وليكون التعليم عامًّا مشاعاً بين الحاضرين. اختلاف العلماء: اختلف العلماء فيمن دخل المسجد والخطيب يخطب: هل يصلى تحية المسجد، أو يجلس وينصت للإمام؟. فذهب الشافعي، وأحمد، وأصحاب الحديث إلى أن المشروع له الصلاة. مستدلين بهذا الحدث، وبحديث: «إذا جاء أحدكم يوم الجمعة والإمام يخطب، فليركع ركعتين». وذهب مالك، وأبو حنيفة، إلى أنه يجلس ولا يصلي. مستدلين بقوله تعالى: {وإذَا قُرِئ القُرآن فَاستمِعُوا لَهُ وأنصِتُوا} وحديث: «إذا قلت لصاحبك: أنصت يوم الجمعة فقد لغوت». وأجاب المستحبون للصلاة عن الآية بأجوبة: منها: أًن هذين الحديثين مخصصان لها، على فرض إرادة الخطبة بها، وكذلك مخصصان للحديث الآمر بالإنصات. وأجاب أبو حنيفة، ومالك عن حديث الباب بأجوبة واهية، لا يركن إليها في عدم الأخذ بهذين الحديثين الصحيحين الصريحين. ولذا قال النووي في شرح مسلم عند قوله صلى الله عليه وسلم: «إذا جاء أحدكم والإمام يخطب فليركع ركعتين وليتجوز فيهما» قال: هذا نص لا يتطرق إليه تأويل، ولا أظن عالما يبلغه هذا اللفظ ويعتقده صحيحا فيخالفه. ما يؤخذ من الحديث: 1- مشروعية خطبتَي الجمعة، وأن هذا من شعارها الذي يلزم الإتيان به. 2- استحباب ركعتي تحية المسجد وتأكُّدُها، لكون النبي صلى الله عليه وسلم أمر بالإتيان بها حتى في هذه الحال. 3- أن الجلوس الخفيف لا يذهب وقتها وسنيتها، لأن الرجل جلس، فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يقوم ويصلى. 4- جواز الكلام حال الخطبة للخطيب، ومن يخاطبه. 5- أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يسكت عن خطأ يراه في أي حال. 6- أن لا يزيد في الصلاة على ركعتين، لأنه لابد من الإنصات للخطيب. الحديث الرابع: عَنْ عَبْدِ الله بن عُمَرَ رضيَ الله عَنهُمَا قَالَ: كَانَ رَسولُ الله صلى الله عليه وسلم يَخْطُبُ خُطْبَتَيْن وَهُرَ قَائِمٌ، يَفصِلُ بينهُمَا بِجلوس. المعنى الإجمالي: كان النبي صلى الله عليه وسلم يخطب الناس يوم الجمعة خطبتين، يوجههم فيهما إلى الخير، ويزجرهم عن الشر. وكان يأتي بالخطبتين وهو قائم على المنبر، ليكون أبلغ في تعليمهم ووعظهم، ولما في القيام من إظهار قوة الإسلام وأبهته. فإذا فرغ من الخطبة الأولى، جلس جلسة خفيفة ليستريح، فيفصل الأولى عن الثانية، ثم يقوم فيخطب الثانية. ما يؤخذ من الحديث: 1- وجوب الخطبتين في الجمعة قبل الصلاة، وأنهما شرطان لصحتها، قال الحلبي: لم ينقل أنه صلاها بلا خطبة. ولو كان جائزا لفعله ولو مرة لبيان الجواز، والوجوب هو مذهب عامة العلماء. 2- استحباب قيام الخطيب في الخطبتين- ومذهب الشافعي وجوب القيام مع القدرة. 3- استحباب الجلوس اليسير بين الخطبتين للفصل بينهما، وأوجبه بعض العلماء، والجمهور على أنه سنة لا واجب. فائدة: قال ابن دقيق العيد: وهذا اللفظ الذي ذكره المصنف لم أقف عليه بهذه الصيغة في الصحيحين. وقال ابن حجر في فتحٍ الباري: وللنسائي والدارقطني من هذا الوجه كان يخطب خطبتين قائماً، يفصل بجلوس. وغفل صاحب العمدة فعزا هذا اللفظ للصحيحين. قلت: وبهذا تبين أن الحديث لم يرد في الصحيحين بهذا اللفظ، وإنما ورد بلفظ آخر، وهو من حديث ابن عمر كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب يوم الجمعة قائماً، يجلس ثم يقوم، كما يفعلون الآَن. فائدة ثانية: قال ابن القيم ما خلاصته: كان صلى الله عليه وسلم إذا خطب احمرت عيناه وعلا صوته واشتد غضبه، وكان يقصر الخطة ليطيل الصلاة، ويكثر الذكر، ويقصد الكلمات الجوامع، ويعلم أصحابه قواعد الإسلام، وكان يشير بالسبابة عند ذكر الله ودعائه، وكان يأمرهم بالدنو والإنصات، وينهى عن تخطى رقاب الناس، وكان إذا فرغ بلا ل من الأذان شرع صلى الله عليه وسلم في الخطبة. الحديث الخامس: عَنْ أبي هُرَيرة رضيَ الله عَنْهُ أنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم قَالَ: «إِذَا قُلْتَ لِصَاحِبِكَ أنصِتْ يَومَ الجُمُعَةِ وَالإمَامُ يَخطبُ فقدْ لَغَوتَ». غريب الحديث: لغا: كغزا، أتى بقول ساقط، ليس فيه فائدة. وفسره النضر بن شميل بالخلو من الأجر. المعنى الإجمالي: من أعظم شعار الجمعة الخطبتان، ومن آداب المستمع الإنصات فيهما للخطيب، ليدبر المواعظ، ويؤمّن على الدعاء. ولذا حذر النبي صلى الله عليه وسلم من الكلام، ولو بأقل شيء فإن من نهي صاحبه عن الكلام ولو بقوله: «أنصت» والإمام يخطب فقد لغا لأنه أتى بمنافٍ لسماع الخطبة. ما يؤخذ من الحديث: 1- وجوب الإنصات للخطيب يوم الجمعة، وقد نقل ابن عبد البر الإجماع على وجوب ذلك. 2- تحريم الكلام حال سماع الخطبة وأنه منافٍ للمقام. 3- يستثنى من هذا من يخاطب الإمام أو يخاطبه الإمام، كما تقدم في قصة الذي دخل المسجد ولم يصل، وكما في قصة الأعرابي الذي شكا إلى النبي صلى الله عليه وسلم القحط. 4- استثنى بعضِ العلماء من كان لايسمع الخطيب لِبُعْد، فإنه لاينبغي له السكوت بل يشتغل بالقراءة أو الذكر، وهو وجيه. أما من لا يسمعه لصمم، فلا ينبغي أن يشغل من حوله بالجهر بالقراءة، ويكون ذلك بينه وبين نفسه. الحديث السادس: عَنْ أبي هُرَيْرَةَ رضي الله عَنْهُ أنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم قَالَ: «مَن اغْتَسَلَ يَوْمَ الجُمُعَةِ ثم رَاحَ في السَّاعَةِ الأوٍلَى فَكَأنَّمَا قَرَّبَ بدَنَةَ، وَمَنْ رَاحَ في السَّاعَة الثانِيَةِ فَكَأنَّمَا قرَّبَ بَقَرَة، وَمَنْ رَاحَ في الساعَةِ الثالِثَةِ فَكَأنَّما قَرَّبَ كَبشاً أقْرَنَ، وَمَنْ رَاحَ في السَاعَةِ الرَّابِعَةِ فَكَأنَّمَا قَرّبَ دَجَاجَةً وَمَنْ رَاحَ في السَّاعَةِ الخامِسَةِ فَكأنَّمَا قرَّبَ بَيْضَةً، فَإذَا خَرَجَ الإمَامُ حَضَرَتِ المَلاَئِكَةُ يَسْتَمِعُونَ الذِّكرَ». غريب الحديث: راح: تأتي بمعنى السير في آخر النهار، كما تأتي بمعنى مطلق الذهابِ، وهو المراد هنا، ولذا أريد بها الذهاب في أول النهار لصلاة الجمعة. وما يزال هذا مستعملا في نجد والحجاز وبعض بلاد الشام. دجاجة: بفتح الدال وكسرها، يقع على الذكر والأنثى، والجمع دجاج، ودجادج. «حضرت الملائكة»: بفتح الضاد كسرها، لغتان. وقد جزم المازري في شرح مسلم أن وظيفة هؤلاء كتابة من حضر يوم الجمعة. البدنة: تطلق على الناقة والجمل والبقرة، ولكنها في الإبل أغلب، وهو المراد منها بهذا الحدث. المعنى الإجمالي: يبين النبي صلى الله عليه وسلم فضل الاغتسال والتبكير إلى الجمعة، ودرجات الفضل في ذلك. فذكر أن من اغتسل يوم الجمعة قبل الذهاب إلى الصلاة، ثم ذهب إليها في الساعة الأولى، فله أجر من قرب بدنة وتقبلت منه. ومن راح بعده في الساعة الثانية فكأنما أهدى بقرة. ومن راح في الساعة الثالثة فكأنما قرب كبشاً ذا قرنين، وغالباً يكون أفضل الأكباش وأحسنها. ومن راح في الساعة الرابعة فكأنما قرب دجاجة. ومن راح في الساعة الخامسة، فكأنما قرب بيضة. فإذا خرج الإمام للخطبة والصلاة، انصرفت الملائكة الموكلون بكتابة القادمين إلى سماع الذكر، فمن أتى بعد انصرافهم، لم يكتب من المقَرِّبين. ما يؤخذ من الحديث: 1- فيه فضل الغسل يوم الجمعة، وأن يكون قبل الذهاب إلى الصلاة. 2- وفيه فضل التبكير إليها من أول ساعات النهار. 3- الفضل المذكور في هذا، مترتب على الاغتسال والتبكير جميعاً. 4- أن ترتيب الثواب، على المجيء إليها. 5- أن البدنة أفضل من البقرة في الهَدْي، وكذلك البقرة أفضل من الشاة. 6- أن الكبش الأقرن أفضل من غيره من سائر الغنم في الهَدْي والأضحية. 7- أن الصدقة مقبولة وإن قلَّتْ، لأنه جعل إهداء البيضة مقياساً في الثواب. 8- أن الملائكة على أبواب المساجد، يكتبون القادمين، الأول فالأول، في المجيء إلى صلاة الجمعة. 9- وأنهم ينصرفون بعد دخول الإمام لسماع الذكر، فلا يكون للآتى بعد انصرافهم ثواب التكبير. 10- تقسيم هذه الساعات الخمس من طلوع الشمس إلى دخول الإمام بنسبة متساوية. وذكر الصنعاني أن الساعة هنا لا يراد بها مقدار معين متفق عليه. 11- القادمون في ساعة من هذه الساعات الخمس، يتفاوتون في السبق أيضاً فيختلف فضل قربانهم باختلاف صفاته. 12- أن فضل الناس عند الصنعاني مرتب على أعمالهم بالجمعة وغيرها {إنَّ أكرَمَكُمْ عِنْدَ الله أَتقاكُم} فلا حَسَب وَلاَ نسَبَ ولاَ نَشَبَ. 13- الهدي الذي يراد به النسك فيما يتعلق بالحج والإحرام لا يكون إلا من بهيمة الأنعام وهي الإبل والبقر والغنم. أما الدجاجة والبيضة وغير ذلك فلا يجزئ في ذلك المقام، لأنه أراد في هذا الحديث مطلق الصدقة. الحديث السابع: عن: سَلَمَةَ بن الأكوع- وكان من أصحاب الشجرة رضي الله عنه- قال: «كُنَّا نُصَلي مَعَ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم صَلاَةِ الجُمُعَةِ ثُمَّ نَنْصَرِفُ وَلَيس َ لِلحِيطانِ ظِلّّ نستظِلُّ بِهِ». وفي لفظ: كُنَّا نجِّمع مَعَ رَسولِ الله صلى الله عليه وسلم إِذَا زَالَتِ الشمس، ثم نَرجِعُ فَنّتَتَبَّعُ الفيءَ. المعنى الإجمالي: يذكر سلمة بن الأكوع رضي الله عنه أنه كان من عادة صلاتهم مع النبي صلى الله عليه وسلم الجمعة: أنهم كانوا يصلون مبكرين، بحيث إنهم يفرغون من الخطبتين والصلاة، ثم ينصرفون إلى منازلهم، وليس للحيطان ظل يكفي لأن يستظلوا به. والرواية الثانية: أنهم كانوا يصلون الجمعة مع النبي صلى الله عليه وسلم إذا زالت الشمس، ثم يرجعون. اختلاف العلماء: اتفق العلماء على أن آخر وقت صلاة الجمعة هو آخر وقت صلاة الظهر. واختلفوا في ابتداء وقتها. فذهب الأئمة الثلاثة: إلى أن وقتها يبتدئ بزوال الشمس كالظهر. مستدلين على ذلك بأدلة. منها: ما رواه البخاري عن أن أنس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلى الجمعة حين تميل الشمس. وذهب الإمام أحمد في المشهور عنه: إلى دخول وقتها بقدر وقت دخول صلاة العيد، واستدل على ذلك بأدلة. منها: الرواية الأولى في حديث الباب. ومن أدلته ما أخرجه مسلم وأحمد من حديث جابر: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلى الجمعة، ثم نذهب إلى جمالنا فنريحها، حين تزول الشمس. وللجمهور تأويلات لهذه الأحاديث بعيدة. والحق ما قاله الشوكاني في نيل الأوطار: ولا ملجىء إلى التأويلات المتعسفة، التي ارتكبها الجمهور. واستدلالهم بالأحاديث القاطعة، بأن النبي صلى الله عليه وسلم صلى الجمعة بعد الزوال، لا ينفي الجواز قبله. قلت: الأولى والأفضل، الصلاة بعد الزوال، لأنه الغالب من فعل النبي صلى الله عليه وسلم، ولأنه الوقت المجمع عليه بين العلماء، إلا أن يكون ثَمَّ حاجة، من حر شديد، وليس عندهم ما يستظلون به، أو يريدون الخروج لجهاد قبل الزوال، فلا بأس من صلاتها قبل الزوال. ما يؤخذ من الحديث: 1- مشروعية التبكير في الجمعة مطلقاً، سواء أكانوا في شتاء، أم صيف ويكون حديث الإبراد خاصًّا بالظهر. 2- ظاهر الحديث، جواز صلاة الجمعة قبل الزوال، حيث كانوا يصلون، ثم ينصرفون، وليس هناك ظل يستظلون به، وهو الصحيح كما تقدم. الحديث الثامن: عَنْ أبي هُريرة رضي الله عَنْهُ قَالَ: كَانَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم يَقْرأُ في صَلاَةِ الفَجْرِ يَوْمَ الجُمُعَةِ آلم تنزيل السجدة، وفي الثانية،- هَل أتَى عَلَى الإنسَانِ. المعنى الإجمالي: كان من عادة النبي صلى الله عليه وسلم أن يقرأ في صلاة الفجر يوم الجمعة آلم تنزيل وهل أتى على الإنسان لما اشتملت عليه من ذكر خلق آدم، وذكر المعاد وحشر العباد، وأحوال القيامة الذي كان وسيكون في يوم الجمعة، تذكيراً بتلك الحال عند مناسبتها. وهكذا ينبغي أن يذكر كل شيء عند مناسبته، ليكون أعلق بالأذهان، وأحضر للقلوب، وأوعى للأسماع. الأحكام: 1- استحباب قراءة هاتين السورتين في صلاة فجر يوم الجمعة. 2- ظاهر الحديث، المداومة عليهما من النبي صلى الله عليه وسلم، لإتيان الراوي بصيغة كان. قال ابن دقيق العيد: وفي المواظبة على ذلك دائماً أمر آخر، وهو أنه ربما أدى الجهال إلى اعتقاد أن ذلك فرض في هذه الصلاة، فإذا انتهى الحال إلى أن تقع هذه المفسدة فينبغي أن تترك في بعض الأوقات دفعا هذه المفسدة. ولكن تعقبه الصنعاني فقال: إنه يتعين إشاعة السنن وتعريف الجاهل لما يجهله، وإعلامه بالشريعة، ولا تترك السنة مخافة جهله، وما ماتت السنن إلا خيفة العلماء من الجهال، وليس بعذر، فإن الله أمر بإبلاغ الشرائع. قلت: وكلام الصنعاني وجيه جداً. |